العرب اليوم
الكاتب - فاروق جويدة

هجرة المصريين ومراكب الموت : بقلم فاروق جويدة

لم تكن الهجرة فى يوم من الأيام حلما من احلام المصريين خاصة البسطاء منهم كان الفلاح المصرى لا يغادر قريته وكان كل ما يحلم به بيت صغير وقطعة ارض تكفيه وقبر يحتويه حين تأتى ساعة الرحيل.. وكان العامل المصرى نموذجا للعبقرية فى الآداء والتميز واكتسب خبرات كثيرة كان العالم يحسدنا عليها..ومنذ باع عواد ارضه فى أزمنة مختلفة اختلفت المشاعر وبدأت حشود المصريين تشق طريقها فى متاهات الغربة وحين هبط البترول على العالم العربى وبدأت حكومات وشعوب هذه الدول تزرع ارضها لم يكن امامها غير ان تستعين بالفلاح والعامل المصرى وكانت سنوات البترول من اكثر المراحل فى تاريخ مصر الحديث حين اتجه ملايين المصريين الى السفر إلى دول الخليج وليبيا والعراق..

على جانب آخر كانت هذه الدول قد غيرت نظم التعليم فيها وهنا سافرت افضل العقول المصرية فى الجامعات والمدارس والصحة والزراعة وقد نجحت العمالة المصرية فى ان تغير الواقع الإجتماعى والثقافى فى هذه الدول فقد هاجرت افضل الكفاءات ولم يبق للمحروسة شئ من رصيدها البشرى المميز..

اقتصرت هجرة المصريين البسطاء والقادرين علميا على الدول العربية الغنية وان كانت بعض عقولنا المميزة قد هاجرت إلى أمريكا واوروبا خاصة بعد نكسة 67 وان بقيت فئات المجتمع الأخرى بعيدة عن الحلم الأوروبى لأنه يحتاج إلى مستويات مميزة فى الخبرات والفكر والثقافة.. حدث هذا فى نهاية الستينيات والسبعينيات وان ارتفع عدد المهاجرين بعد ذلك خاصة إلى دول مثل كندا وامريكا.

فى السنوات الأخيرة بدأت حشود المهاجرين الى اوروبا تزداد اعدادها وكانت هناك أسباب كثيرة وراء هذا الإتجاه فى حياة المصريين..

> أول هذه الأسباب كان ازدياد معدلات البطالة بين الشباب حيث لا امل ولا عمل خاصة ابناء الطبقات الفقيرة الذين حصلوا على اعلى الشهادات الجامعية وتفوقوا فى دراستهم ومطلوب منهم ان يكونوا عمال بناء او باعة متجولين فى حين سطى ابناء الطبقة الجديدة على كل الفرص..كان من الصعب على شاب كان ترتيبه الأول على دفعته ان يعمل بوابا فى إحدى العمارات بينما زميله الجاهل الفاشل يركب سيارته بعد ان انضم الى فريق الإدارة المصرية المترهلة والمتوحشة..كان اكبر نموذج قدم صرخة دامية امام الجميع هو الشاب الذى القى نفسه فى نهر النيل بعد ان تم استبعاده من مسابقة فى السلك الدبلوماسى كان الأول عليها واستبعدوه لأنه غير لائق اجتماعيا..كان نهب الفرص أخطر وأسوأ من نهب الأموال فى عصور مختلفة وهنا بدأ الشباب يفكر فى الهجرة كانت الفرص فى الدول العربية قد تراجعت ولم يعد امام ملايين الشباب المصريين وهم بلا عمل غير ان يفكروا فى الرحيل الى اليونان او ايطاليا وبقية الدول الأوروبية..لا احد يلوم شبابا يبحث عن مستقبله واحلامه ان يفكر فى الهجرة وهنا وجدنا عصابات الهجرة غير الشرعية الذين استغلوا حالة الإحباط بين الشباب لتبدأ رحلة الموت فى سفن متهالكة لا تصلح للإستخدام الآدمى.

> من أخطر اسباب الهجرة بين شبابنا هو الإنقسام الطبقى شديد الشراسة الذى قسم ابناء الوطن الواحد على اساس من يملك ومن لا يملك ولم تكن الملكية قائمة على اساس من يملك ومن لا يملك ولم تكن قائمة على اسس من الكفاءة والعدالة والتميز ولكنها حكومات فاسدة اعطت كل شئ لمن لا يستحقون وأنشأت بقرارات فاسدة كيانات اجتماعية وسياسية غريبة ومشبوهة و فى سنوات قليلة وجد المصريون انفسهم امام عصابات استباحت ثروة الشعب ومقدراته

> ان الدولة المصرية نسيت اقاليم مصر وحذفتها من قائمة الإهتمامات.. هناك مدن بلا مياه او طرق او مجارى وهناك ملايين التهمتهم الأمراض والميكروبات والتلوث وهناك اطفال جاءوا الحياة على موعد مع الموت ولم تكن الدولة عادلة فى اى مرحلة فى تاريخ مصر الحديث وهى توزع الخدمات على أبناء شعبها كان الصعيد غارقا فى الجهل والفقر والأمراض وكانت الدلتا غارقة فى مستنقعات الإهمال والتسيب..خلال ثلاثين عاما خرجت أجيال ساخطة على كل شئ.

> لم يكن الخلل الإجتماعى وغياب منظومة العدالة هى الوباء الوحيد الذى أصاب المصريين فى السنوات العجاف كان التجريف الثقافى والفكرى والسلوكى اخطر ما تعرضت له الشخصية المصرية من التحلل في الفكر وغياب القدرات والكفاءات فقد وجد المصريون انفسهم امام معادلات مقلوبة وضعت المال سلطانا على الجميع رغم انه مال حرام ووضعت الثقافة والفكر فى آخر القائمة رغم انها كانت الأساس الذى قام عليه الدور المصرى تاريخيا وحضاريا..كان إهمال التعليم فى كل مراحله جريمة..وكانت أساليب الفهلوة والإنتهازية ومسح الأحذية جريمة وكان وصول المعاقين ذهنيا وفكريا واخلاقيا الى اعلى المناصب كارثة..وهنا رحلت عن المحروسة ابرز العقول واكفأ القدرات ولم يسألهم احد لماذا تهاجرون؟

> افتقدت حكومات مصر فى كل عصورها تقدير الأمانة والمسئولية تجاه الشعب وتعاملت مع فئات كثيرة من ابنائه بعدم التقدير والعرفان..أخذت من الإشتراكية أسوأ ما فيها وهى اشتراكية الفقر وأخذت من الإنفتاح أسوأ ما فيه وهى منطق العصابة واخذت من الخصخصة ابغض ما فيها وهى التحايل على اموال الشعب ونهب ثرواته جهارا نهارا كان نصيب الشعب دائما وفى كل المراحل التهميش وغياب الثقة والإصرار على مبدأ القطيع.

> لم يتغير اسلوب الإدارة المصرية فى التعامل مع مآسى بسطاء هذا الشعب لم يتغير ما حدث مع سالم اكسبريس ومركب الموت فى رشيد..ثلاثة ايام والضحايا غارقون فى مياه البحر ولم يذهب اليهم مسئول..لو ان لنشا صغيرا كان يحمل واحدا من ابناء الأكابر واصابه مكروه لإنطلقت السفن من كل مكان تنقذ الضحية.

بقى عندى عتاب لكل من هاجم اسر الضحايا لأنهم ارادوا الهجرة فى مركب الموت لا أحد يعرف معاناة هؤلاء وكيف يعيشون وما يتعرضون له من كل الوان المهانة والحاجة وهؤلاء اناس اميين لا يقرأون ولا يكتبون وقد اكلت الأمية سنوات عمرهم وهذا كل ما اتيح لهم من الفكر والثقافة ان يرحل حتى لو مات بين الأمواج لأنها ارحم من زمان ووطن لم يرحم فقره وحاجته..حرام ان نلعن الضحية ولا نسأل الجلاد الذى مازال ينعم بما نهب في أزمنة الفساد

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

%d مدونون معجبون بهذه: