الهجرة النبوية رسالة في التعايش الكريم : بقلم شوقي علام

عَدُّ الهجرة النبوية الشريفة فتحًا عظيمًا لدعوة الإسلام، وانطلاقة كبرى للرسالة المحمدية لتبلغ آفاق المعمورة ليخرج الناس من الظلمات إلى أنوار الهداية بإذن ربهم فى حرية كاملة لا يشوبها إكراه لأحد على قبولها والإيمان بها.
وتمثل أعظم دليل على نصر الله تعالى وتأييده للإسلام والمسلمين ورفع لواء هذا الدين الحنيف خالدًا فى الخافقين، بعد أن أغلق أهل مكة كل الأبواب أمام النبى صلى الله عليه وسلم ودعوته على مدى ثلاث عشرة سنة، فعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين».
إن هذه السنوات الثلاث عشرة التى قضاها النبى فى مكة بعد البعثة كانت مليئة بالأوقات الحرجة والأزمات الشديدة والمواقف القاسية، فلقد وجد النبى وأصحابه من أنواع العذاب وألوان الاضطهاد الداعية إلى الفتنة فى دينهم، وتنغيص حياتهم، وزعزعة استقرارهم.

ورغم هذا العذاب الأليم بلَّغ النبى رسالة ربه، صابرًا شجاعًا صادقًا، وهو معرض للفتك به والقتل، لا يخشى أحدًا غير الله تعالي، ولا يخاف شيئًا من طغيان المشركين واستبدادهم، معرضًا عن بعض أحوالهم لا عن ذواتهم كما أمره ربه بقوله: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر: 94- 96].
وكان النبى فى ذلك مثالا للمسلمين فى الصبر وتحمل المصائب والبلايا والثبات عند الشدائد مع ترسيخ التعايش والمشاركة والتعاون والميل إلى السلام والالتزام بالقيم والأخلاق وبذل المعروف والبر دون تمييز أو تفرقة.
وعن ذلك يقول جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه فى خطبته أمام النجاشي: «أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتى الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوى منا الضعيف، وكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه. فدعانا إلى الله، لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، قال: فعدد عليه أمور الإسلام، فصدقناه وآمنا، واتبعناه على ما جاء به».
ولا ريب فإن الله تعالى قد هيأ نبيه لمكارم الأخلاق وكرم الشمائل وخصال الخير، التى تقضى بضرورة هجر أخلاق أهل الشرك وأفعالهم المشينة، بل توجب مقابلة إساءتهم بالإحسان والفضل.
كما نجد اشتراك النبى صلى الله عليه وسلم فى حلف الفضول مع قبائل قريش الذى تعاقدوا على نصرة المظلوم وإحقاق الحقوق لأصحابها، تعظيمًا للمشترك الإنسانى من القيم والأخلاق، ودرسًا فى وجوب التعاون على تدعيمه ونصرته.
ذلك لأن هذا اللون من التعاون تفرضه الحكمة وتمليه أسباب العيش بين البشر بحكم التجاور والمصالح المتبادلة، وهو أصل تأسس عليه ما حواه التشريع الإسلامى بمذاهبه المختلفة من تراث فريد فى مجال العلاقات الدولية التى تكشف عن سمات وأصول منهج المسلمين، نظرية وتطبيقًا، فى العيش الكريم مع الآخر، واحترامه والدعوة المطلقة للحوار والتعايش السلمى وتعميق المشترك الإنساني.
هذه بعض دلائل وسمات حياة النبى وأصحابه الأُول ممن آمن به وبدعوته فى مكة المكرمة بعد نزول الوحى وقبل الهجرة إلى المدينة، وبذلك يظهر أن مقاصد دعوة الإسلام وموجبات الرسالة المحمدية فى كل مراحلها توجب تنظيم المجتمع على أسس مستقرة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، تنظيمًا يؤسس على العدل ويرسخ فيه التعايش والتعاون وتعظم فيه المشاركة الإيجابية فى العمل والإنتاج. وهذا ما بدا بوضوح فى مكة قبل الهجرة النبوية وإن كان على نطاق غير واسع، ولكنه ازداد تأسيسا ورسوخا بعد الهجرة فكان على مستوى الدولة والمجتمع، وفى مناخ من التعايش والاندماج بين فئات مجتمع المدينة جميعا؛ من خلال مبدأ «المواطنة».

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

%d مدونون معجبون بهذه: