العرب اليوم
الكاتب - عبد الفتاح الجبالي

ولكنها تدور ! : بقلم عبد الفتاح الجبالي

هذه العبارة كانت هى التى نطق بها عالم الفلك والفيلسوف الإيطالى الشهير جاليليو حينما اثبت ان الأرض تدور حول
الشمس وليست ثابتة وفقا لاعتقادات النظريات اليونانية التى كانت سائدة آنذاك،الامر الذى عرضه لهجوم شديد من جانب الكنيسة بتهمة انها تتعارض مع التعاليم الدينية وهو ما نفاه جاليليو تماما ولكن المحكمة أصرت على رأيها وحكمت عليه بالسجن قبل ان يخفف الى الإقامة الجبرية واجبرته على ان يقرر ان الأرض لا تتحرك على الاطلاق وانها ثابتة ولكنه اصر على موقفه وكان دائما يردد قائلا ولكنها تدور. هذه الواقعة التاريخية المهمة تؤكد ما ذهب اليه المفكر الاقتصادى الشهير اللورد كينز من ان المشكلة لا تكمن فى الأفكار الجديدة ولكنها تكمن فى الأفكار القديمة والبالية المتغلغلة فى العقول. وللأسف فإن الواقع المصرى يؤكد ذلك بشدة إذ إننا مازلنا ندور فى الماضى ولانتقبل التطوير والتحديث, وللأسف فغالبا ما نكتشف اننا نحتاج الى الإصلاح ولكن بعد فترة طويلة تجعله اكثر تكلفة وأشد ايلاما فعلى سبيل المثال كنا قد اقترحنا على هذه الصفحة عام 2001 فى ثلاث مقالات, استبدال الديون المستحقة للتأمينات الاجتماعية على الخزانة العامة وبنك الاستثمار ببعض الأصول المملوكة للدولة مثل بنك الإسكندرية ومصر للطيران والشركة القومية للدخان وهو الاقتراح الذى قوبل بعاصفة من الرفض داخل البرلمان المصرى ودفع د. عاطف عبيد رئيس الوزراء آنذاك, الى التراجع وإعلان ان هذه الفكرة غير واردة على الاطلاق ولكنها عادت الى السطح الان وأصبحت مطلبا للمهتمين بهذه المسألة. وينطبق نفس الكلام على الحسابات والصناديق الخاصة الذى تناولناه عام 2002 وطالبنا بتنفيذ توصيات الجهاز المركزى للمحاسبات فى تقاريره السنوية عن الحسابات الختامية للدولة لكننا ووجهنا بعاصفة من الرفض من جانب كل الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية، قبل ان تصبح مطلبا ملحا الآن وبعد مرور هذه السنوات الطويلة.

هذه الأمثلة وغيرها الكثير دارت فى الذهن اثناء متابعة مناقشة مجلس النواب لقانون الخدمة المدنية والذى ينطلق بفلسفة جديدة وآليات حديثة تهدف الى تطوير الجهاز الإدارى للدولة وجعله قادرا على تقديم الخدمة الحكومية بأعلى جودة ونزاهة تامة. وبالتالى يعمل علىإيجاد جهاز إدارى كفء وفعال يتسم بالشفافية والعدالة ويخضع للمساءلة، ويعنى برضاء المواطن ويحقق الأهداف التنموية للبلاد، عن طريق تعزيز الثقة بين المواطن والدولة، وإتاحة الخدمات العامة بعدالة وجودة عالية، مستندا على مبادئ الحوكمة الرشيدة.وهو ما رفضه البرلمان الجديد بحجج تحتاج الى بعض النقاش وتوضيح وجهات النظر، مع احترامنا الكامل لقرار المجلس تجسيدا للديمقراطية التى نحترمها جميعا. ولكن هذا لايمنع بالتأكيد من الحوار الجاد والموضوعى حول هذه المسالة حتى نصل الى أفضل بديل ممكن مادام كان الهدف واضحا أمام الجميع

من هذا المنطلق وجدنا لزاما علينا إيضاح بعض الأمور المهمة ردا على تقرير اللجنة التى اعدت الدراسة واوصت بالرفض والتى جانبها الصواب فى العديد من الأمور فمثلا اشار التقرير الى استمرار النهج فى الاعتماد على المستشارين الذين يحصلون على أجور فلكية وهو ما يجافى الحقيقة تماما اذ ان اللائحة التنفيذية للقانون وضعت شروطا واضحة ومحددة منها الا يتجاوز العمر ستين عاما وكذلك مراعاة الحد الأقصى للدخول وبالتالى فلا يمكن الحديث عن الأجور الفلكية او على الأقل نريد ان نعرف ما هو تعريف الأجور الفلكية !

وعلى الجانب الآخر اشار التقرير الى شبهة عدم دستورية نتيجة لتعيين الأزواج والابناء لفئات معينة، ويبدو ان معدى التقرير يأخذون بمنهج لا تقربوا الصلاة اذ يجب الاطلاع على كل مواد الدستور حيث تنص المادة 16 من الدستور على إلزام الدولة برعاية وتكريم اسر شهداء الوطن والعمل على توفير فرص عمل لهم وهو بالضبط ما أخذ به القانون باعتباره ينفذ أحد الاستحقاقات الدستورية. يضاف الى ذلك الحديث الغريب عن إمكان قيام المستثمرين باستغلال العمال فلا ندرى موقع هذه العبارة من الموضوع اذ من الواضح ان كاتبى التقرير نقلوا هذه الفقرة من أحد المنشورات الماركسية دون ان يعلموا طبيعة العمل الحكومى والذى لا يوجد به مستثمرون على الاطلاق!

اما الموضوع الأهم وهو الأجور فقد جانب التقرير المذكور التوفيق تماما فى هذه المسألة فمن المعروف ان المجتمع بكامله يتفق على ان أوضاع الأجور فى المجتمع التى كان معمولا بها قبل القانون الجديد يعانى العديد من الاختلالات وعلى رأسها ارتفاع نسبة الأجور المتغيرة بحيث كانت تشكل الجانب الأكبر من إجمالى الأجور فضلا عن الاختلاف الكبير فيما يحصل عليه الموظف بين الجهات الحكومية المختلفة وبعضها البعض، نتيجة للتفاوتات فى البدلات والحوافز والمكافآت والمزايا النقدية التى يحصل عليها الموظف تبعاً للجهة التى يعمل بها،كما أن بعضها يتم وفقاً للسلطة المختصة وبعضها الآخر يرتبط بالإيرادات التى تحققها بعض الجهات. وهى امور ادت إلى تفاوتات كبيرة فى دخول العاملين وهنا تجدر الإشارة الى انه وبينما تستحوذ المحليات على نحو 57.4% من اجمالى الدرجات الوظيفية فإنها حصلت على 48% من الأجور عام 2014/2015 وفى المقابل نجد إن الجهاز الإدارى الذى يعمل به 31٫2% قد حصل على 38٫5 % من الأجور وحصلت الهيئات الخدمية على نحو 13٫2% من اجمالى الأجور بينما يعمل بها 11,4% ناهيك عن الاختلالات الداخلية فيما يتعلق بتوزيعات هذه الأجور ولهذا أجمعت كافة الدراسات على صعوبة واستحالة الاستمرار فى هذه السياسات.

وهنا تجدر الإشارة الى ان النظام لم يقم بتثبيت الحوافز والمكافأت على الاطلاق ولكنه حولها من نسب مرتبطة بالأجر الأساسى الى ارقام مطلقة، وذلك لسببين أولهما ان مفهوم الاجر الأساسى قد تم استبداله بالأجر الوظيفى وثانيهما ان الاجر الوظيفى قد أصبح يشكل نسبا مرتفعة من الإجمالى وليس 17% كما كان من قبل فمثلا الدرجة السادسة كان اجرها الأساسى 192 جنيها اصبح اجرها الوظيفى 835 جنيها بنسبة زيادة 435% وبالمثل الدرجة الخامسة كان اجرها الأساسى 201 جنيه اصبح اجرها الوظيفى 840 جنيها بنسبة زيادة 418% وكانت الزيادة بين الأجرين فى الدرجة الرابعة نحو 404% وفى الثالثة نحو 358% والثانية 310% والاولى 278% وبالتالى استحالت إعطاء نفس النسب على ارقام تمت مضاعفاتها عدة مرات.

هذا مع ملاحظة ان التحويل الى ارقام مطلقة لا يخفض الأجر المكمل نهائيا، ولا يثبته، كما اشاع البعض. ولكنه يسهم إلى حد بعيد فى تنظيم الرواتب والأجور للدرجات الوظيفية بمختلف الوزارات والجهات العامة ليحد من تفاوتها بين جهة وأخري. نظرا لان بعض الجهات كانت تحصل على حافز يصل الى 1500% من الاجر الأساسى بينما لم تكن الجهات الاخرى تزيد على 400% فقط، رغم قيامه بنفس العمل تقريبا، وهو ما ادى الى اتساع الفجوة بين العاملين فى الجهات المختلفة بصورة كبيرة وازدياد عدم العدالة الاجتماعية، ومطالبة الجميع بالحد من هذه التفاوتات. الامر الذى استوجب معه الاخذ بالعديد من الاعتبارات منها مراعاة التدرج الوظيفى بين الدرجات الوظيفية، والحفاظ على الأقدميات داخل الدرجة الوظيفية الواحدة. وتقليل الفروق بين الجهات الداخلة فى القانون وبعضها البعض وكذلك بين المستويات الوظيفية المختلفة. ولهذه الأسباب فقد تم تطبيق المادة السابقة على كل الجهات الداخلة فى الموازنة العامة للدولة وفقا لما جاءت به المادة 15 من قانون الربط، والذى وافق عليه مجلس النواب اخيرا وبالتالى فان رفض القانون يحتاج الى علاج هذه المشكلة ناهيك عن تعديلات قانون التأمينات الاجتماعية والتى تم اقراراها أيضا رغم انها تتعلق بقانون الخدمة المدنية.

هذه الأمور وغيرها لا تعنى ان الأمور على ما يرام وان القانون قد تصدى لكل المشكلات التى يعانيها الجهاز الإدارى للدولة، بل على العكس فإن هناك بعض المجالات التى يمكن تحسنها فى القانون مع مراعاة انه لا يمكن التعويل على آلية واحدة للحل فهناك منظومة متكاملة للإصلاح الإدارى من ضمنها قانون الخدمة المدنية جنبا الى جنب مع العديد من الأمور الأخرى التى لا يتسع المجال لذكرها الان. ولكننا نعود للتذكير بما بدانا به ولكنها تدور!!!.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

%d مدونون معجبون بهذه: