الكاتب- أحمد حسن الزعبي

عطر المطبعة.. بقلم أحمد حسن الزعبي

أول حقيبة مدرسية اقتنيتها كانت تشبه حقيبة «المطهّر» مستطيلة ومنتفخة، لكنها للأمانة كانت أصغر حجماً وأكثر رومانسية، عليها رسمة ديك واثق المشية، وثلاثة كتاكيت تتبعه بطاعة متناهية.. حملتها وتهت بين الصفوف، المعلّمون متشابهون إلى حد كبير.. جميعهم طوال القامة ويفرقون شعرهم إلى اليسار، ويرتدون «الشارلستون»، ولهم شوارب كثّة، ويدخّنون بشراهة، ويضربون العصي على الحيطان كلما تعالت أصوات الطلاّب.. كيف لي أن أعرف صفي بين هذه الغرف المتلاصقة كزنازين انفرادية، لقد ارتأت إدارة المدرسة الحكيمة آنذاك أن تضع الصفوف الابتدائية في طابق «التسوية»، والصفوف الإعدادية في الطابق العلوي، لذا كنا نحظى بعتمة ورطوبة مضاعفة مقارنة ببقية الفصول.. بقيت جالساً في مفترق الصفوف وبين ساقي حقيبة الديك الفارغة.. حتى سمعت صوتاً أبوياً يقول لي: «صفّك هون يا جحش»! ففرحت أيما فرح، ودخلت الغرفة كآخر طالب يلتحق بالصف الأول.

■■ مازلت أؤمن تماماً بأن لمس أول كتاب في تاريخ الأبجدية، يشبه تماماً لمس يد الحبيبة الأولى، يبقى قوياً وحاضراً وحيّاً مهما طوي من سنين العمر، وتبقى رائحة الكتب المدرسية، مثل رغيف أمي الصباحي في أيام يناير الباردة، معلقاً في الذاكرة، شهياً وحاراً وزاخراً بالحبر الطازج.. في بداية كل عام، عندما يعود إليّ أولادي بعد غياب قصير في اليوم الدراسي الأول، أفتح حقائبهم، أقلب كتبهم الجديدة، أتنفس عطر المطابع، أمعن النظر في الرسوم التوضيحية والصور وأبطال القراءة وصور الفاكهة الملوّنة، والأرقام المكتوبة بخطوط كبيرة، علّها تستفيق الطفولة النائمة تحت أعمارنا، أتذكر كتاب القراءة والحساب وحقيبة الديك التي خذلتني في منتصف الفصل الأول.. أتذكر توهاني في الممر المكتظ في اليوم الأول، والبحث عن دورة المياه، لم أكن أعرف أن الخوف يضاعف الإدرار وقتها، حاولت الاعتماد على نفسي في ظل هذه الظروف الصعبة، فوجدت الحمامات مقفلة بقفل ضخم يشبه أقفال مخازن السلاح، التفت حولي ونفّذت المهمة على عدّة تعود لأحد عمال الصيانة؛ «منخل ومجرفة وميزان لعمارة الطوب»، لحسن حظي وسوء حظ الرجل، كانت مركونة في إحدى الزوايا فكان ما كان.

■■ فصل المدارس هو فصل السنة الخامس.. فيه تورق الدفاتر، وتمطر النقاط على السطور، تنتشر قصاصات التجليد ولزوجة الصمغ وتتساقط دوائر الخشب الوردية المبرية من رأس قلم الرصاص.. وكما تنتشر رائحة التراب مع الشتوة الأولى في سبتمبر.. تنتشر رائحة المطابع في الحصة الأولى في سبتمبر أيضاً.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

%d مدونون معجبون بهذه: