من خلال خبرة المصريين مع السلطة خلال الأعوام الأخيرة أصبحت هناك قناعة بأن الحكومة تختار أوقاتا محددة تعقبها أجازات رسمية من أجل تمرير تطبيق القرارات الجديدة المتعلقة برفع الأسعار ، وخاصة اسعار الوقود ، فكانت الحكومة تختار مساء يوم الخميس مثلا لتنفيذ القرارات المشابهة ، على اعتبار أن صبيحته سيكون يوم الجمعة ، والناس نيام ، ولا يوجد دوام رسمي ولا مدارس ولا جامعات ، وكذلك يوم السبت الذي يعقبه ، وعندما يفيق الناس مع أول أسبوع العمل تكون الحياة قد طبعت على القرار الجديد ، والشارع بدأ التعامل وفق الأوضاع الجديدة ، هذا المخطط الحكومي “الماكر” تكرر كثيرا ، حتى أصبح مثار التندر لدى الناس والتعليقات الساخرة ، خاصة اختيار ليلة الجمعة .
هذه الأيام هناك قلق ومخاوف لدى الناس من قرارات محتملة بخصوص رفع أسعار الوقود ، والمسألة شبه منتهية ، لأنها مدرجة في ميزانية العام الجديد ، أي أن دولاب الدولة كلها تم ترتيبه على الوفرة المالية المنتظرة من رفع أسعار الوقود ، وبقيت المسألة متعلقة بالتوقيت فقط ، متى يتم تنفيذ هذا الإجراء القاسي ؟ هذا هو السؤال الذي يشغل الناس هذه الأيام ، وهو ما يجعل الكثيرين يستحضرون خبرتهم القديمة مع الحكومة ، واختياراتها للتوقيتات ، وخاصة في الأيام التي تسبق الإجازات القصيرة أو الطويلة ، وبطبيعة الحال نحن مقبلون على إجازة عيد الفطر “السعيد” ابتداء من الخميس المقبل ، والذي ستعقبه إجازات تمتد لقرابة أربعة أيام على الأقل ، وبالتالي أصبحت هناك قناعة متزايدة ، بأن قرار رفع أسعار الوقود قد يكون ليلة العيد ، دون اعتبار للمناسبة ، فقد اعتاد المواطن على أن “تنكد” عليه الحكومة أيا كانت المناسبة .
كانت الأجهزة قد وجهت صحفها وأقلامها خلال الفترة السابقة للتمهيد للقرار ، بالحديث عن الأسعار العالمية للوقود ، وكيف أن المصريين “مدللون” بأسعار أقل من غيرهم من الدول ، حتى دول الخليج العربي المنتجة للنفط ، ووصلت الكتابات إلى مستوى متدني من الكذب والمغالطات ، عندما تقارن مواطنا في دولة دخل أسرته الشهري يمكن أن يتجاوز مائتي ألف جنيه مصري ، بمواطن مصري دخله الشهري تحت سقف الألفي جنيه ، إذا استبعدنا الشريحة الوسطى المتآكلة الآن والتي تتجاوز هذه الحدود بقدر محدود ، ويبدو أن ما حدث في الأردن قد انعكس على توقيت القرار هنا ، وكان واضحا أن أحداث الأردن تشغل صانع القرار في القاهرة ، وكانت المؤشرات على ذلك واضحة في هجوم الإعلام الرسمي في مصر على مظاهرات الأردن وتحذير الأردنيين من مصير سوريا والعراق ، كنت تشعر أن الخوف هنا وليس هناك .
الناس في مصر مثقلة جدا بضغوط الحياة ، وقد أفزعني أن صديقا محاميا قديما يحدثني وهو يشكو من أنه أصبح شبه عاجز عن دفع فواتير الكهرباء فضلا عن بقية نفقات الأسرة التي يعولها ، كما يمكنك أن تسمع أو تقرأ القصص المؤلمة عن آلام عوام الناس في توفير لقمة العيش ، بالمعنى المباشر للقمة العيش ، الخبز والجبن ، وهؤلاء هم الذين سيكونون أكثر وأهم ضحايا الزيادات المنتظرة في أسعار الوقود ، لأنهم هم الذين سيتحملون عبء الأسعار المضاعفة للسلع ووسائل المواصلات ، لأن سيارة الأجرة أو النقل التي ستدفع أكثر من ضعف ما كانت تدفعه في التزود بالوقود لن يكون أمامها إلا تحميل تلك الزيادة على الراكب نفسه ، فضلا عن تحميل الزيادة في اسعار السلع التي يتم نقلها وتسويقها .
المشكلة أن صورة المقبل أكثر ظلاما ، لأن هناك تفاقما في أزمة السيولة وأزمة المياه وهناك ميزانية متواضعة للغاية للاستثمارات الجديدة ، بما يعني أن توفير فرص عمل تتقلص ، وكل ما يشغل الدولة لتوفير سيولة أن تفرض المزيد من الضرائب أو المزيد من الرسوم على الخدمات ، وهو ما يخنق الناس أكثر ، كما أن تقليص مساحات الزراعة لمحاصيل حيوية مثل الأرز ، سيضطر الدولة للاستيراد ، والاستيراد يحتاج إلى العملة الصعبة ، وهو ما يضغط على العملة المحلية التي من المتوقع أن تتراجع خلال المرحلة المقبلة ، كما أن أسعار الاستيراد بديهي أن تكون أعلى من الانتاج المحلي ، ويبدو أن السلطة مسترخية ومطمئنة على أن آلة الردع الخشنة جاهزة ، وأن القوى السياسية تم تشتيتها وإرباكها بل وتمزيقها وقهرها.
دوامة لا أعرف كيف نخرج منها ، بعيدا عن السياسة وعن جدل السلطة والمعارضة ، فملايين المصريين البسطاء في المدن والقرى والنجوع هم الذين سيدفعون الثمن ، ملايين الأسر هم الذين سيعانون البؤس وذل الاحتياج ، ناهيك عما يتخلف عن ذلك كله من أعراض اجتماعية وخلل أخلاقي وسلوكي وحتى إجرامي .